top of page
Search

أحنُّ إلى أمي

  • Writer: الأفنان الثقافية
    الأفنان الثقافية
  • Mar 28, 2018
  • 3 min read

في إحدى القرى النائية ذات الجذور الممتدة ومترامية الأطراف القابعة في عمق الجزيرة العربية , حيث خصوبة الثرى و روعة النسيم وموطن الطيور المهاجرة و وعورة الطُرقات الجبلية , كان هناك يقبع منزل جدتي ذو الطرازِ العتيق الخالي من  اوجه الحضارة والتمدن .


كنا دوماً عندما يحط آذار أوزارهُ ننطلق من حَداثة المدينة وصخبِها الى تلك القرية المدقعة بالحاجة ,لم تكنّ التكونولوجيا حديث عصرهم او موضع اهتمام تلك القرية وكان قصر الحال لا يضيقهم والكهرباء كانت بالنسبةِ لهم مجرد اختراعِ دخيل لا تأبه اغلب البيوت بإدخالها , فالكهرباء كانت تأتي متقطعةً وكأن تلك المنازل تشحذها بأن تُنير طُرقاتها.


كانَّ لدى جدتي مذياع قديم الطراز خرج من دوامةِ الزمن وكأنه بقايا من نتاج التكنولوجيا المندثرة وكأغلب تلك المنازل العربية كان موقع المذياع هو (المطبخ ) وكأن المذياع نصب نفسه رئيساً في صدر مخزنَّه .


اصبح المكان كالكبينة الإرسالية فتأتي الأخبار السيئة والجيدة من قعرِ المطبخ , ولسوء الأحوال المكانية وبساطةِ الحال , دائماً ما كانت تختلط طيف الموجات الكهرومغناطيسية المرسلة لتتداخل الأخبار مع بعضها البعض ,كنا دوماً ننام ليلاً على صوت "المنشاوي"  لنستيقظ على صباحيات فيروز فجراً , ليغطي على صوتِ "فيروز" تهكم جدتي اللامتناهي واستجوابنا مثل حقل العسكر موجّهةً عَصَيها نحونا قائلةً بحزم (مين فيكم اللي غير الإذاعة يلي ما تخافون الله) ؟ فيأتي جوابنا بالإنكارِ الشديدِ لتبدأ هي بالتشكيك في مصداقيتنا وإلقاء المحاضرات الدينية التي تُجرم سماع المعازف لتنطوي تلك الليلة مثل دوماً.


كعادة جدتي ليلاً لا تهنى الإ بصوتِ "المنشاوي" ينشر السكينةَ و الروحانيةَ في ارجاء المنزل ,ليوقظني بعدها فجراً صوت الذبذبات الإذاعية المزعجة معلنةً بأن إذاعة القرآن ستؤول الى محطةِ غنائية , هممت بإصلاح ذلك السلك المجعلك لتستقر الإذاعة في نهايتها على صوت بيروتيٍ عذب كأنما جمع الجنَةَّ في حنانِ صوته او في معاني كلماتهِ او حتى في عذوبةِ ترنُم صفقِ العودِ الرنان ,كان اللحنُ حزين وكأن منَ يُغنيها يناجيَ ربهُ كل ليلةِ .


لا اعلم كم ارهفتني تلك الأغنية وفاضت عيناي تغدق وابلاً من الدموع ,لأبكي ألماً حينها من عُصي جدتي التي أطرقت رأسي كمرزبةٍ لا ترحم , لتتأكد حينها بأنني منَ كُنت اقوم بتغييرِ الإذاعة ليلاً ورغم قسمَي وقتها و ودموعي وقلة حيلتي لم تصدقني يومها, انتهى آذار وانطلقنا نحمل أسفارنا كالمعتاد لنرجع لصخب الحياة والروتين اللانهائي المعتاد.


رحلتُ منَ القريةِ و انا احمل معي تلك الاغنية التي مزقت نياط قلبي وشجتَ رأسي في آن تعلقتُ بها في صدري وباتتَ لا تفارقُ عقلي حتى فُطنت القصة الحقيقة خلفَ هذهِ الكلمات التي ما ان علمتُها حتى اصَبحت من اوائل تفضيلاتي .


كاتّب هذهِ الكلماتِ يقول : كنتُ الطفل الثاني بين إخوتي وكالمتعارفَ عليهِ في معظم الأسرِ العربية ان غالباً ما يتم تهميش الابن الأوسط ويتم تدليل الباقين , فكنت أعتقد بأن والدتي لا تحبني بقدر اختي وأخي فكبرتُ وأنا متمسك بنظريتي هذهِ حتى عامِ 1965 م حينما تَم اعتقالي من قبل قواتِ الاحتلال الإسرائيلي على خلفية إلقائي لقصيدة شعرية في "جامعة القدس" دون أخذِ تصريح وتم ترحيلي لسجن بمنطقة "الرملة" .


جاءت والدتي لزيارتي فيما بعد وعلى وجَهها كُل علاماتِ الأسى والحزن حاملةً بين طياتِ يديها سلةً مليئة بالفواكه والخبز , و ابريقِ قهوة التي اعدتهم خصيصاً لي وعندما رفضت قوات الاحتلال إدخال الخبز والقهوة أصرت على إدخالهم لي " لأنني أحبه " وبالفعل أدخلتهم لي وبمجرد رؤيتي لأمي ألقيتُ نفسي بين أحضَانها ومن هنا شعرتُ بالذنبِ الشديدِ جراءَ إحساسي الخاطئ تجاهِ والدتي كُل هذهِ السنين وأضاف عندما انصرفت لم أجد أجملَ من الاعتذار لها إلا بكتابةِ قصيدة , كتبتها اعتذارا عن ظلمي لها لسنواتٍ لم أكن أفهمها كَما ينبغى أن يفهمَ الأبناءَ أمهاتُهم.


(أحنُّ إلى أمي ) نعم هكذا أسميتُها ولأنه , لم يكنَّ مسموحٌ ادخالِ الأوراقِ إلى السجناء خططتها على ورق الألمنيوم المغلف لعلبة سجائري،

إلى أمي :


أحنُّ إلى خبز أمي

وقهوة أمي ..

ولمسة أمي ..

وتكبُر في الطفولة

يوماً على صدر يوم

وأعشق عمري لأني

إذا مت،

أخجل من دمع أمي!

خذيني، إذا عدت يوماً

وشاحاً لهدبُك

وغطي عظامي بعشب

تعمد من طهركعبك

وشدي وثاقي .. بخصلة شعر

بخيط يلوح في ذيل ثوبك ..

ضعيني، إذا مارجعت

وقوداً بتنور نارك ..

وحبل غسيل على سطح دارك

لأني فقدت الوقوف

بدون صلاة نهارك

هرمت، فردي نجوم الطفولة

حتى أشارك صغار العصافير

دربا لرجوع .. لعش انتظارك


الشاعر والثائر الفلسطيني : محمود درويش


لم يدُرك محمود درويش أنّ هذهِ الكلمات ستصُبح نشيداً اساسياً في سجون الاحتلال , ونغماً مرثياً في الأعياد , وناقوساً يدقُ في شهرِ آذار ، لتنتشر تلك الكلمات كالطوفان المُضطرب ليتغنى بها ملايين الأيتام وملايين الناس الذين انتهكتهم غربةُ الأوطانِ وطردتُهم الحروب القاهره .


وكانَ أشهرِ منَ لحنَّها وغناَّها آنذاك مُطرب بَرَزَ من أرضِ الأرزِ اللبناني " مارسيل خليفة " حيثُ جَعلها روعةً من روائعِ المرثياتِ العربية .


وتطبيقاً للحكمةِ الشهيرة " يولدُ الإبداع من رحمِ المعاناة " ولدِت "أحنُّ إلى أمي" نتاجِ معاناة  "محمود درويش "  في أنفاقِ سجون الاحتلال وبين شعورهِ بالذنب لحُكمه الخاطئ تجاهِ والدته.


 
 
 

Recent Posts

See All
ولهانه والشوق قاتلني

أقرأ أخبارك و أفرح و أروح أسمع أهازيجك وأتخيلك تعبت وأنا انتظر و كل يوم أصحى أشوف التاريخ وأقول هانت اشتقت لروقاني بعد فوزك واشتقت لكلمة"...

 
 
 
تبقى القليل لعودت الكبير

ساعات قليله تفصل العميد للعودته للحياة ساعات قليله وتحقق أهداف نواف المقيرن ساعات قليله ونضع تعاقداتنا امام الحساد ساعات قليله وسنشعل...

 
 
 

Comentarios


© 2018  by alafnan group. Proudly created with Wix.com

  • Snapchat Social Icon
  • Twitter Social Icon
  • Instagram Social Icon
bottom of page